وبمزيد من تحرك القمر حول الأرض تبدأ مساحة الجزء المنير من وجهه المقابل للأرض تتناقص بالتدريج حتي يتحول البدر إلي( الأحدب الثاني) في حدود ليلة الثامن عشر, ثم إلي( التربيع الثاني) في ليلة الثالث والعشرين, ثم إلي( الهلال المتناقص) في ليلة السادس والعشرين من الشهر القمري, ويستمر في هذه المرحلة لليلتين حتي يصل إلي مرحلة( المحاق) في آخر ليلة أو ليلتين من الشهر القمري حين يعود القمر إلي وضع الاقتران.
ولما كان القمر يقطع في كل يوم من أيام الشهر القمري حوالي(12) درجة من درجات دائرة البروج(360 درجة29,5 يوما_12,2 درجة), فإنه يقع في كل ليلة من ليالي الشهر القمري في منزل من المنازل التي تحددها ثوابت من النجوم أو من تجمعاتها الظاهرية حول دائرة البروج, وهذه المنازل هي ثمانية وعشرون منزلا, بعدد الليالي التي يري فيها القمر, وتعرف باسم( منازل القمر).
ولما كان القمر يجري مع الأرض حول الشمس ليتم دورته الشمسية السنوية فإنه يمر عبر البروج السماوية الإثني عشر التي تقع فيها الشمس في كل شهر من شهور السنة الشمسية. وعلي ذلك فإن كل منزل من منازل القمر اليومية يحتل مساحة في برج من هذه البروج.
وفي الحضارات القديمة عرف الناس دورة القمر من المحاق إلي المحاق, أو من الهلال الوليد إلي الهلال المتناقص, كما عرفوا منازل القمر الثمانية والعشرين, واستخدموا ذلك في تحديد الزمن, وفي التأريخ للأحداث, ويبدو أن ذلك من بقايا الحقب القديمة.
من هنا يأتي وجه الإعجاز العلمي والتشريعي في التأكيد علي أهمية الشهر القمري في تحديد الزمن النسبي لأهل الأرض بدقة فائقة, أما الزمن المطلق فلا يعلمه إلا الله- تعالي- وعلي ذلك فإن سنة المسلمين هي سنة قمرية/ شمسية, يحدد الشهر فيها دورة كاملة للقمر حول الأرض, ويحدد السنة فيها دورة كاملة لكل من الأرض والقمر حول الشمس. والفارق الزمني بين الإثني عشر شهرا قمريا, والدورة الكاملة للأرض والقمر حول الشمس هي في حدود(11 يوما), وذلك يحرك عبادة المسلم عبر الفصول المناخية رحمة بالناس, وإشعارا لهم بحركة الزمن, ولذلك قال- تعالي- موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم-( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج...).
و(الأهلة) جمع( هلال), وهو تعبير عن مراحل القمر من الهلال الوليد إلي البدر الكامل ومنه إلي الهلال المتناقص حتي المحاق.
ومن أسباب نزول هذه الآية الكريمة أن كلا من معاذ بن جبل وثعلبة بن عثمة- رضي الله عنهما- قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط, ثم يزيد حتي يعظم ويستوي, ثم لا يزال ينقص ويدق حتي يعود كما كان, لا يكون علي حال واحد ؟ فنزلت هذه الآية الكريمة توضح لهم أن الأهلة هي أفضل وسيلة لتحديد الزمن لأهل الأرض وتحديد الأوقات المضروبة لعباداتهم من مثل أوقات صومهم وفطرهم, وأداء زكاتهم, وحجهم, وأوقات معاملاتهم من مثل حساب عدة نسائهم, وأوقات حلول ديونهم, وأزمنة وفاء شروطهم المؤجلة, وغير ذلك من أمور دينهم ودنياهم.